حاضرون غائبون: الفلسطينيون في الداخل (١)
وكأن لون البحر اليافاوي انعكس في لون عينيه فازدادت زرقتهما زرقة. قطع عقده السادس واقترب من السابع وما زال يعمل في البناء ليؤمن لإبنه الأصغر الذي يدرس في جامعة تل أبيب جزء من تكاليف التعليم الباهظة. جامعة تل ابيب الواقعة في منطقة رمات افيف، الشيخ مونس. الشيخ مونس إسم محفور في ذاكرة أبو حسن ويذكره كلما ذكر إسم الجامعة، حتى ليبدو وكأنه إسم مرادف لإسم الجامعة. أسماء وأسماء، بعضها محفور على اللافتات والبعض الآخر في الذاكرة. بين إسمين يعيش الفلسطينيون في الداخل. بين إسم كان وإسم أصبح لكل ما حولهم وفي وطنهم. يتذكر أبو حسن منطقة الشيخ مونس جيداً عندما كانت في غالبيتها أراض زراعية جاء للعمل بها في الخمسينيات وكان أغلب رفاقه بالعمل من القرى الواقعة 30 إلى 40 كم شمال يافا، حيث اضطر قسم كبير منهم للنوم في بيارات البرتقال المجاورة، خوفاً من أن يضبطوا بدون تصاريح عمل أو خروج من مناطقهم التي بقيت في أغلبها خاضعة للحكم العسكري حتى عام 66.
” كان الكثير من ابناء القرى الذين يعملون في منطقة الشيخ مونس ينامون بالبيارات ولا يعودون إلى قراهم إلا مرة كل ثلاثة أشهر خوفاً من أن يضبطوا بدون تصاريح. كانوا ينامون بالخوف ويتحدثون عن الضباع التي تأتي تنبش حولهم وهم نيام كما تنبش بكومات زبالة. الخوف والغربة والذهول وعدم التصديق أننا اصبحنا اجيرين في أراضينا هو شعور من القهر لا يمكن وصفه.”
بقي في يافا حوالي 4 الاف فلسطيني من أصل 120 الف كانوا يعيشون فيها قبل النكبة. تم إجبارهم على التجمع في منطقة العجمي وعاشوا حتى عام 1950 تحت حكم عسكري حيث إحيطت منطقة سكناهم بأسلاك شائكة ومنعوا من الدخول والخروج إلا بإذن عسكري. كما إستولت إسرائيل على قسم من أملاك الذين لم يُهجروا بـ ”قانون أملاك الحاضرين الغائبين“. قامت إسرائيل بإحصاء كل ممتلاكات الفلسطينيين ”الغائبين” ومصادرتها لتصبح ملكاً للدولة ومن بين هؤلاء الغائبين اليافاويون الذين إجبروا على الإقامة في العجمي ووقت القيام بالإحصاء لم يكونوا في بيوتهم المتواجدة في مناطق أخرى من يافا. فأصبحوا حاضرين غائبين.
” من أصعب الاشياء التي لن أنساها كطفل هو عندما أسكنوا عائلات مهاجرين من بلغاريا معنا في نفس البيت. كان على جميع أفراد العائلة أن يسكنوا في غرفة ومعنا في الغرف الثانية عائلات تشاركنا ليلنا. ما أصعب ليالي يافا في تلك الأيام. أنت لا تعرفين ما معنى أن يرى الطفل أباه عاجزاً عن فعل أي شيء، نحن شربنا الذل وما زلنا نتجرعه...“
على هامش الهامش هو أقل ما يمكن أن توصف به أوضاعهم الإجتماعية والسياسية. حالة الإغتراب والتغرب داخل وطنهم هي من المشاعر الأساسية التي يحدثك عنها الكثيرون ممن تلتقي بهم من فلسطينيي الداخل وأبو حسن واحد منهم وهو من سكان يافا الذين تمكنوا من البقاء بها بعد النكبة. يستذكر أبو حسن هذه الأيام أحداث هبة أكتوبر التي يمر عليها عشر سنوات وكانت انطلقت عام 2000 عندما قام الفلسطينون في الداخل بمظاهرات حاشدة إحتجاجاً على موافقة إيهود باراك رئيس الوزراء في حينه على دخول اريئيل شارون إلى الأقصى. لم تتهاون قوات الشرطة الإسرائيلية في إستعمال قبضة من حديد لإخماد هبة أكتوبر بأسرع وقت ممكن خوفاً من أن تنتشر شعلتها في عقر ” الدار الإسرائيلية“ فسقط ضحيتها 13 فلسطينيا في الداخل. الكثير من الإسرائيلين وعلى رأسهم ”حمامات السلام ” أعلنوا عن خيبة أملهم من تصرفات الفلسطينين الذين يطلق عليهم، عندما يتعلق الأمر بواجباتهم، مواطنوا الدولة.
” إنظري إلى جامع حسن بيك، كم مرة تعرض لإعتداءات على مبناه ومحاولات حرقه ومحاولات إغلاقه وكل هذا لم ينفع. لا تعرف الأغلبية من الناس التي تمر هنا أننا في يافا ولسنا في تل أبيب. كل شيء دمر في المنشية إلا هذا المسجد.“
على مقعد خشبي في الساحة المقابلة لجامع حسن بيك جلس أبو حسن ينتظر حفيده إميل حيث سنقوم معهما بجولة للتحضير لتصوير ربورتاج عن يافا وتل أبيب وأوضاع العرب فيها. جامع حسن بيك هو واحدٌ من الرموز الكثيرة التي يمكن أن ترمز لحالة التغرب التي يعيشها الفلسطينون في الداخل. فهو المبنى الوحيد الذي بقي من حي المنشية شمال يافا بعد أن دمر الحي بشكل كامل. اليوم تقع البناية الحجرية أمام شاطيء البحر في أحد أغلى المناطق من ناحية أسعار الأراضي في تل أبيب، محاط بفنادق ضخمة معزول عن كل ما حوله. تعرض هذا المكان في السنوات العشر الأخيرة لأكثر من سبع محاولات إعتداء وحرق وتكسير ورمي بزجاجات حارقة من قبل متطرفين أخرها كان عام 2008.
حال هذا المسجد اليافاوي لا يختلف كثيرا عن حال أهل يافا وسائر الفلسطنين في الداخل. قساوة الوضع والصعوبات التي يواجهونها يمكن أن تتجلى بشكل ظاهر للعيان في المدن المختلطة أكثر من غيرها. ويافا هي أحد الأمثلة. يصل عدد سكان يافا العرب اليوم إلى حوالي 23 الف نسمة ويعانون من إجتياح وشراء لمناطقهم القليلة المتبقية في مزادات علنية من قبل أغنياء من فرنسا وأمريكا يحملون فكراً كولونيالياً ويحاولون الإستيلاء على ما تبقى من الأراضي التي بيد العرب وتهميش أهلها بمساعدة سياسات حكومية تؤدي إلى تهجير صامت وتردي أحوال أهلها ليعيشوا في فقر مدقع ومعاناة شديدة من مشاكل في إلإسكان والتعليم.
منع قسم من سكان يافا العرب من ترميم بيوتهم حتى أصبحت آيلة للسقوط فوق رؤسهم. ليبدو وكأن سكان هذه البيوت هم الذين يحملونها على رؤسهم بدلاً من أن تحملهم هي.
إميل حفيد أبو حسن يذهب إلى مدرسة يهودية وهو حال 15 % من طلاب يافا الفلسطينيين. فمستوى التعليم في المدارس العربية الحكومية سيء. أما الأهلية فتكاليفها غالية. يقول أبو حسن إن ذهاب إميل لمدرسة يهودية كان خيار والديه بغية حصوله على فرص تعليم أفضل. وتأتي له العائلة بمدرس خصوصي مرتين في الأسبوع بغية تعلم العربية الفصحى.
إميل بصوته الهادئ وقامته الطويلة يتحدث بهدوء وترتيب لأفكاره ووعي سياسي وإجتماعي لما يدور حوله تستغربه من شاب بالكاد قطع أعوامه الخمسة عشر. لكن إميل وجد حوله عائلة تحاول توعيته حول هذا الموضوع، أمر لا تجده في كل العائلات. وعن السؤال عما إذا كان يعاني أحيانا من عنصرية في المدرسة كشاب عربي إبتسم إيميل وأجابني بعبرية أشكنازية مقلداً بعض رفاقه في المدرسة.
” نصر الله، اتا خسن نصر الله.“
جملة يستعملها زملائه كشتيمة له، عندما يتشاجر مع احدهم، بمعنى أن ولاءه ليس لدولتهم بل للأخر، عدوهم. يمشي إميل بمحاذاة جده وطقس يافا الخريفي بدأت تلبد غيومه السماء. ونتوجه على الأقدام إلى البلدة القديمة في يافا التي كانت، والتي أصبحت، ومن حولنا صوت أبو حسن يتحدث عن شوارع محفورة بالذاكرة وعن حياة الحاضرين الغائبين.
[اضغط/ي هنا للجزء الثاني وهنا للترجمة الإنجليزية]